نحن فى عصارات الكتب نحاول أن نلخص الكتاب .. نعتصره .. نستخرج أهم ما فيه .. نناقش الكاتب .. نحاوره .. نتفق معه .. ونعترض عليه .. لكن فى الفيتامين نحاول أن نستخرج الجوهرة المكنونة الموجودة فى الكتاب ؛ إذ لكل كتاب جوهرته ، قد ننسى ما قرأناه فى الكتاب لكن أبداً لا ننسى تلك الجوهرة ، والجوهرة إما فكرة جديدة نلتقطها لتحتل مكانها فى عقلنا وضميرنا ، وننطلق فى حياتنا بها أو رؤية تطبيقية لما استفدناه تنقله من عالم الفكر إلى عالم الواقع .. إنه الفيتامين ..
وعى يُشكّل وعلم يُفعّل
الكتاب : أهلاً .. مع السلامة للاستاذ / عبد الوهاب مطاوع
عبد الوهاب مطاوع .. الإنسان ..
من خلال قراءتى لكتاب ( أهلاً .. مع السلامة ) للأستاذ / عبد الوهاب مطاوع ، عرفت صفتين فى شخصيته وهما :
-
ميله البارز للحزن ، وميله لأن يصبح مثل الشمعة التى تحترق لتنير الطريق للآخرين .. وقد يكون هذا من تأثير سماعه لشكاوى المئات من المجروحين والمهمومين أثناء إشرافه على بريد الجمعة فى صحيفة الأهرام .
-
التأمل أمام كل موقف قد يكون عابراً ، وإن كان تأمله هذا يأخذ صبغة ( الإنسان المتعاطف ) ، وليس صبغة ( الفيلسوف المتفكر ) .. التأمل بالقلب والعاطفة أكثر من التأمل بالعقل والفكر وإن كانت تأملاته رغم ذلك لا تخلو من العبر والعظات والدروس المفيدة فى نواحى الحياة المختلفة ، كما تدل هذه التأملات على اتساع خبرة الأستاذ / عبد الوهاب الحياتية .. فمهما كان الإنسان ميالاً لاستخدام القلب أكثر من العقل أو العكس إلا أن التشابك بين الاثنين حتمى ، وما أقصده أن تأملات الأستاذ تختلف مثلاً عن تأملات ابن محافظته ومن يحمل نفس اسمه الدكتور / عبد الوهاب المسيرى مع علمنا باختلاف التخصص بين الاثنين .
تتجلى هذه السمات جيداً فى مقال بعنوان : أشجان عابرة من الكتاب الذى بين أيدينا ( أهلاً .. مع السلامة ) .. ففى هذا المقال يتحدث الأستاذ عن نفسه ويخبرنا أنه قد تمر به بعض المواقف العابرة والتى تجعل الحزن والشجن يتسلل إلى نفسه رغم كون هذه المواقف ربما لا توحى بهذا الحزن .. من هذه المواقف التى ذكرها الأستاذ أنه يقول أنه فاته أن يحضر حفل زفاف ابنة إحدى قريباته لظروف سفره إلى الخارج وقتها ، وبعد رجوعه ذهب إليها ليهنئها بزواجها ، وهناك عرضوا عليه فيلم الفرح ، وراح يشاهده مع الجميع ورغم إبداء الجميع لسعادتهم وفرحهم بالذكرى الجميلة إلا أن الأستاذ / عبد الوهاب راح ينظر إلى أحد أفراد الزفة ولاحظ نحوله فى فيلم الفرح ، ثم أخذ يفكر أن هذا الشاب قد يعانى من أحد الأمراض المزمنة ، وأن ظروف أكل العيش هى التى دفعته للعمل رغم إجهاده الملحوظ ، وأنه فى الوقت الذى يسهم فى إسعاد الآخرين قد يكون قد طعن فى مشاعره إذ فاته أن يتزوج بفتاته بسبب فقره ومرضه وقلة حيلته .. كل هذه الأمور راح ينسجها الأستاذ فى ذهنه دونما مسوغ حقيقى سوى رؤيته لنحول الشاب وإجهاده الذى قد يكون راجعاً إلى تعبه فى ممارسة عمله وحرصه على إخراج الحفل فى أبهى صورة .. المهم أن الأستاذ بعدما انتهى عرض الفيلم استمتع الجميع بأثره البهيج عليهم ما عداه !
وكما قلت فإن عمل الأستاذ الذى فرض عليه التعامل مع شكاوى العديد من المجروحين ربما يكون السبب فى هذه الميول فى شخصيته .
ما أختلف فيه مع الأستاذ / عبد الوهاب مطاوع !
رغم إعجابى الشديد بكتابات الأستاذ / عبد الوهاب مطاوع ، إلا أنى آخذ عليها شيئين :
-
إسراف الأستاذ / عبد الوهاب فى الاستشهاد والاقتباس من الأدب الأوربى أو الأدب الأجنبى بصفة عامة بصورة تفوق اقتباسه من الأدب العربى بكثير .
-
إسرافه فى التأمل فى القصص والرويات الأجنبية منها والعربية وربما مبالغته بعض الشىء فى استخراج العظات والدلالات منها وكأنها قصص حقيقية ، ولقد كان يكفيه ما يرد إليه من رسائل من واقع الحياة وميدانها الحقيقى ، وليس من نسج خيال المؤلفين .
مشكلة زوجية وعلاجها ! لماذا يفشل زواج المثقفين ؟!
ذكر الأستاذ / عبد الوهاب مطاوع مشكلة زوجية قد يعانى منها بعض الأزواج والزوجات ، وخصوصاً هذا النوع من الأزواج الذين لديهم ميول ثقافية أو فنية أو نراهم مهتمين – عموماً – بما هو أكثر من مطالب الحياة المادية .. هذا النوع قد يتمرد على بعض الواجبات العائلية وتجدهم ينفرون من محاصرة زوجاتهم لهم بمطالب الحياة الزوجية المعتادة من : أولاد ومدارس وكهرباء ومياه وفواتير وطعام وشراب وما إلى ذلك من الروتين الزوجى المعروف !!
ولحل هذه المشكلة ، فإن على الطرفين العلم بالآتى :
-
إن الفن بطبيعته أو معالجة الفكر من الأمور التى تجنح بطبيعتها إلى عالم الخيال وتتمرد على الواقع ليس انسحاباً منه وإنما محاولة لتغييره ، ولهذا فمن الطبيعى أن تكون هذه النزعة لكراهية هذا الروتين الزوجى موجودة عند هذه الفئة من الأزواج . كما نجد أن هذه الفئة نظراً لاهتماماتها الثقافية تحب العزلة والخلوة بالنفس كثيراً ، وهذا مما لا يعجب الزوجة التى تحب الأنس والحديث مع زوجها وخصوصاً فيما لا يقبل الزوج على الحديث فيه إلا قليلاً من هذا الروتين اليومى المعروف ( فلانة ذهبت ، وفلانة قالت ، وفلان تزوج .. وهكذا !! )
-
إن الزوجة عندما تلح على زوجها للقيام بأعبائه وواجباته ليس محاولة منها لإثارة ( النكد ) فى البيت ، أو عدم اعترافها بموهبة زوجها وقلة مبالاتها بها ، وإنما هى تفعل ذلك بإيحاء طبيعتها العملية التى تهتم بالأمور اليومية المعتادة التى تحفظ كيان البيت .
وهناك شىء آخر مهم : إن كل امرأة تشعر بالضيق عندما لا يشعرها زوجها بأنها رقم ( 1 ) فى حياته ، ومن بعدها يأتى كل شىء ، وهذا إحساس أنثوى يفسره الكثير من الأزواج بعدم فهم زوجاتهم لهم وبأن لدى زوجاتهم رغبة فى تملكهم والاستحواذ عليهم ، وهذا ليس بصحيح ، وإنما كل ما فى الأمر أن المرأة – من باب حاجتها الشديدة للشعور بالأمان – تحب أن ترى دعائم البيت قائمة دائماً ، وهى تنظر غالباً إلى الجانب المادى ثم هى بعد ذلك تحب أن يعيش معها زوجها كل لحظة ، ويشعرها باهتمامه بها ، وقد يكون هذا هو سر إلحاح المرأة المتكرر بالسؤال عن مدى حب زوجها له ، وهل تحتل مكانتها المناسبة فى قلبه أم أنه أهملها ولم يعد يشعر بوجودها .
-
قد يكون رد فعل الزوج تجاه تذكير زوجته المتكرر للقيام بما يجب عليه القيام به أن يبالغ فى تقدير ما عنده من مواهب مذكراً إياها بأنه ليس مثل الناس العاديين ، وأن العالم ينتظر منه الكثير وما إلى ذلك من المبالغات التى يجب أن يعلم كلا الزوجين مبعثها والدافع إلي قولها ، كما قد يذكر لزوجته رداً على مطالبتها بالاهتمام بها أن هذه الشىء يحبه ولا سبيل إلى تركه ، وأنها ليست رقم ( 1 ) فى حياته .. وهذا يدل على عدم فهم الزوج – للأسف – للدوافع الأنثوية لأسئلة زوجته ، فيسهم بردوده الغاضبة فى تأزيم المشكلة وتوسيع رقعة الخلاف بدلاً من العمل على تضييقها .
-
على الزوج أن يقوم بالحد الأدنى – على الأقل – مما يجب عليه القيام به ، وعلى الزوجة كذلك أن تعلم أن الرجال تتعدى طموحاتهم مسألة إنشاء بيت وأسرة إلى القيام بما يخلد ذكراهم بعد وفاتهم ويبقى أثراً لهم وخصوصاً هذه الفئة التى تحدثنا عنها .. وعلى كل من الطرفين فهم ذلك وتقديم بعض التنازلات من جانبه .. كقيام الزوجة بترك هامش لزوجها يفعل فيه ما يريد ، وعليها أن تشعره بأنها سعيدة لأنه سعيد بما يقوم به وأنها تقف بجانبه فيما يحب ولا تقف عائقاً أمامه ، وعلى الزوج أن يدرك جيداً أن رسالته فى الحياة لن يستطيع أن يقوم بها كاملة بمفرده وأنه يكفيه قياماً بأمانته أن يمهد الطريق لمن خلفه ، ويفعل ما بوسعه فى حدود قدراته وإمكانياته وأن يسدد ويقارب كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم ، وبالتالى فعليه تخصيص وقت لزوجته وعائلته .
هل أنت حائر مع قصاصات الأستاذ / عبد الوهاب مطاوع الحائرة ؟!!
يتحدث الأستاذ / عبد الوهاب مطاوع فى مقال بعنوان ( القصاصات الحائرة ) عن أنه من هواة الاحتفاظ بأى قصاصة ورق تحمل بيانات من أى نوع ، حتى ولو كان عمر هذه القصاصة يمتد لعشرين أو ثلاثين سنة ، وتشمل هذه القصاصات كروت شخصية أو بطاقات تحية أو أى قصاصات صغيرة ، وقد تضاعفت هذه القصاصات والأوراق أضعافاً كثيرة بعدما شرع فى التصدى لرسائل المهمومين والمجروحين فى بريد الجمعة فى صحيفة الأهرام ، وصارت هذه الرسائل تأخذ أماكنها فى مكتب الأستاذ بالأهرام ، وفى كل ما تتخيل من ( أوعية ) حفظ الأوراق من أدراج وكراتين ومظاريف بل وأجولة أيضاً ! فى بيت الأستاذ نفسه .
وإذا كان الأستاذ / عبد الوهاب قد استطاع أن يتغلب على نزعته تلك بالتخلص من بعض الرسائل والأوراق مضطراً ، إلا أن الغالبية العظمى منها صارت موجودة فى أماكنها يقف أمامها الأستاذ عاجزاً ضعيفاً لا يملك إلا أن يحتفظ بها متحدياً بذلك أسرته ومتحملاً عتابهم ولومهم له أنه صار يشغل كل مساحة فارغة فى البيت بهذه القصاصات والأوراق !
ولقذ ذكر الأستاذ سبباً يراه وجيهاً فى احتفاظه بتلك الأوراق والرسائل والقصاصات أنه وعند قراءته لرسائل المهمومين تبدأ بعض الأفكار فى التوالى على ذهنه فيبادر هو لتقييدها فى قصاصات صغيرة من الورق لتساعده فى صياغة الرد المناسب على صاحب الرسالة ، ثم شرع الأستاذ فى ذكر بعض ما تحويه تلك القصاصات من كلمات جميلة وحكم بليغة ومقولات رشيدة ضمنها جميعاً فى ردوده على الرسائل التى تأتيه .
وهو يذكر ذلك لمحاولة إقناع قراءه بما يدفعه للاحتفاظ بتلك الرسائل والقصاصات رغم تكاثرها الدائم سواء فى مكتبه أو فى بيته .
والحقيقة أنى لم أقتنع بما ساقه الأستاذ من حجج لسبب أكبر من أن ماذكره ينطبق أكثر على القصاصات التى كان يقيد فيها أفكاره لذكرها فى ردوده ، وأن هذه الحجج لا تنطبق على الرسائل وعلى أى كروت شخصية أو بطاقات تحية أو أى قصاصات أخرى تكون الحاجة قد انتفت إليها .
ولا يسوغ لنا ونحن نناقش الأستاذ أن نذكر له أصول الإدارة المكتبية وأن أى ورقة إما أن تأخذ مكانها فى الأرشيف – إن كانت هناك حاجة مستقبلية لها – أو فى سلة المهملات إن انتفت الحاجة إليها .. لا يسوغ لنا أن نذكر ذلك للأستاذ لأنه بكل تأكيد كان على علم به جيداً ، ويبدو أن المسأله نفسية ولذلك سنناقشه من منظور نفسى .. فما هو السبب الحقيقى لما كان يفعله الأستاذ / عبد الوهاب مطاوع ؟!!
أقول بفضل الله وتوفيقه : فى الإنسان نزعة متغلغلة فى أعمق أعماقه لمحاولة تسجيل التاريخ ومحاولة معرفة كل ما جرى فيه ، وكأن الإنسان يعز عليه أن يتفلت الزمن من بين يديه ، لأنه يعز عليه قبل ذلك مرور الزمن وانفراط عقد حياته وجريانها ، فيلجأ إلى تلك الحيلة التى تذكره بكل ( آثار ) الماضى وذكرياته ومتعلقاته .. وأنا أعقب على تلك النزعة فى النقاط التالية :
-
السبب الحقيقى وراء اهتمام الإنسان بالتاريخ .. من مظاهر تلك النزعة الإنسانية العميقة لجوء الناس دائماً إلى فعل ما يفعله الأستاذ / عبد الوهاب – على اختلاف فى الدرجة بينهم ، فيبدو أن الأستاذ من النوع المتطرف فى تلك النزعة !! – فتجدهم يحتفظون بصورهم القديمة ، والعملات القديمة ، وكراسات المدرسة ، أو يحرصون على كتابة يومياتهم سواء الأحداث المفصلية الجسيمة أو اليومية الروتينية البسيطة وكل ما يذكرهم بالماضى ، بل إن الإنسان تجده مثلاً قد يحتفظ بكوب قديم ورثه عن أمه أو أبيه ولا يستخدمه ، ومع ذلك تجده حزيناً جداً لو انكسر هذا الكوب أو أصيب بمكروه !! ويقول لك : كان قد تبقى لى من هذه الأكواب خمسة ، والآن لا أدرى كيف سأكمل حياتى بأربعة فقط .. رحم الله الخامس وأسكنه فسيح جناته !!!!!!
ونجد الناس فى عصرنا الحديث إذا ذهبوا لرحلة تجدهم يودون لو استطاعوا أن يلتقطوا الصور لكل مكان ، ويحبون أن يسجلوا كل لحظة من خلال هواتفهم سواء بالتقاط صور ثابتة أو تسجيل مقاطع مرئية .
ولا يخفى علينا اهتمام الناس ، أفرادأ وحكومات ، بالاهتمام بـ ( الآثار ) القديمة ورعايتها والسعى لترميمها وحفظها من عوامل التعرية ، وتراهم ينشئون المعابد والمتاحف لحفظها .
بل إنى قرأت مرة أن اليابان رغم تقدمها التكنولوجى الهائل إلا أن أهلها ما زالوت يستخدمون آلة عتيقة بسيطة ( لا أذكر فى أى مجال بالضبط ) ولا يستخدمون ما جادت به الحضارة الحديثة الجبارة رغبة منهم فى الحفاظ على تراث الآباء والأجداد .
مظاهر كثيرة تبين تغلغل تلك النزعة فى الإنسان وهى توضح حبه الشديد للحياة ، الذى يجعله يصعب عليه تقبل فكرة ( النهاية والفناء ) ، فكأنه يغالب الزمن ويرفض تفلته من بين يديه ، فيلجأ إلى حفظ ( التاريخ ) بما تتيحه له وسائل تقدمه وتطوره فى العصر الذى يحيا فيه .
ولعل ما ذكرته يفسر لك شيئاً من الحزن الشديد والجزع العظيم الذى تراه على وجه من فقدوا عزيزاً لديهم .. إن جزءاً من هذا الحزن يرجع إلى عدم تقبلهم لفكرة النهاية التى تتجلى أمامهم الآن سافرة متحدية ، وتجد هذا الحزن يتبخر بعد أيام ولا يبقى منه عبرة ولا عظة بل تبقى منه مظاهر ساذجة من التحايل على فكرة النهاية والإصرار على رفضها فتراهم يعلقون صورة كبيرة للميت على الحائط ، أو يغيرون صورهم الشخصية على الفيسبوك إلى لون الحداد الأسود لأيام تطول أو تقصر ، أما الميت فلا ذكرى له سوى النسيان التام ، لأن نسيانه إنما هو نسان للحقيقة التى لا يودون أن يتقبلوها ويعترفوا بها .
-
ينسى الحاضر ، ويرهق نفسه بالماضى ..!! فى الوقت الذى يفعل الإنسان ما سبق لتسجيل وتوثيق لحظات الماضى الجميلة ، تجده يضيع على نفسه لحظات الحاضر الثمينة .. فتجده مثلاً إذا خرج لرحلة ينشغل بالتقاط الصور أكثر من الاستمتاع باللحظة الحاضرة ، وتجده ربما يبالغ فى الاحتفاظ بآثار ذكرياته يما يرهقه كما رأينا مع الأستاذ / عبد الوهاب .
-
كيف نعالج تلك النزعة ؟ على الإنسان أن يبادر لمعالجة تلك النزعة – وخصوصاً لو كانت متطرفة – ومحاولة حصرها فى النطاق الذى لا يسمح بأكثر من الاحتفاظ بقدر معقول من الذكريات ( أقصد المظاهر المادية للذكريات ) يبعث على السعادة إذا رجع إليه ، وشحنه بقدر من الأمل لمواصلة مسيرة الحياة ، لأنه لو لم يفعل ذلك لأوشك أن يكون مستقبله عالم من الحزن والضياع ، مثل الفتاة الجميلة التى تكثر من التحسر على الماضى التى كانت فيه مطمح كل الشباب والآن لم يعد يلتفت إليها أحد .. بل على الإنسان أن يقف لتلك النزعة بالمرصاد بأن يتقبل فكرة النهاية الجزئية بفقدان ما حوله من أشياء صغيرة أو كبيرة وذكريات عزيزة أو عادية وأشخاص قريبين أو بعيدين ، ولن يتمكن من ذلك إلا بتقبل فكرة النهاية الكلية التى تتمثل فى الاعتراف بأنه سيأتى يوم سيموت هو فيه .. فعليه أن يستعد لقدوم هذا اليوم بعدم التشبث بالحياة أكثر من اللازم والزهد فى كل شىء فيها حتى فى محاولته الدائمة لتسجيل وتوثيق ذكرياته .. ويجب أن يطمئن الإنسان فإن هذا لن يفسد عليه طعم الحياة بل سيساعده على معرفة قيمة كل شىء وعدم إعطاءه أكبر من حجمه .. وليكن مثل المسافر .. ألم تنظر إلى المسافر فى القطار مثلاً .. إن علمه بأنه مسافر لا يجعله يسقط فترة السفر من حياته ، بل على العكس تجده يتأمل فيما يمر عليه من بلدان وقرى ، وتجده يحاول أن يتعرف على الجالس بجواره ، بل إن بعض الناس قد يعشقون لحظات السفر هذه ويقتنصون كل ما يمر عليهم من لحظات صفاء وهناء ، وينشغلون بعيش لحظات المتعة بدلاً من الانشغال بتسجيلها ، فإن الانشغال بتسجيلها محاولة يائسة لاستبقاء متعتها وتخليدها ، وهذا محال .
كن مثل هذا المسافر الذى يتطلع إلى ما بعد انقضاء الرحلة من عودة لأولاده أو نيل لمرغوبه ، وتطلع دائماً إلى الحياة الحقيقية التى لن تتفلت منك ولن يصيبك فيها الموت والتى سيمنحك الله فيها حياة خالدة لا انقضاء لها ولا نهاية .
كذلك فإن الإكثار من تلاوة القرآن الكريم تعينك على تقبل ما ذكرته لك .. فتجد القرآن لا يهتم من الماضى إلا بما يعين على الاعتبار والتقاط العظة ، بل إن سورة كسورة يوسف لم يذكر الله فيها إلا العظة والعبرة (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ) وأغفل ذكر كل شىء بعد ذلك ( تخيل لو كان هناك كتاباً يصور حياة سيدنا يوسف فى السجن وكان اسمه مثلاً ( النبى يوسف وراء القضبان ) لربما أصبح من الكتب الأكثر مبيعاً ولتحول إلى فيلم سينمائى يتم إخراجه فى هوليوود !! ، ولكن القرآن لم يذكر من كل ذلك إلا محاورة سيدنا يوسف عليه السلام لصاحبيه فى السجن لدعوتهما إلى عبادة الله الواحد القهار !! وتأويل ما رآه كل منهما وفقط !! ) ، ولقد شدد القرآن على أن كثيراً من الأمم تركت الآثار الكثيرة التى قد تصل فى بعض الأحيان أنها لم يخلق مثلها فى البلاد !! ومع ذلك دمر الله عليهم كل ذلك لأنهم لم يفعلوا الأهم وهو طاعة الله سبحانه وتعالى .
ومن الأمور الملفتة أنه تكاد توجد علاقة طردية بين نمو تلك النزعة ، وبين الركون إلى الحياة الدنيا ، وذلك أمر مفهوم ؛ فالحياة الدنيا فانية ولا يكون التحايل على هذا الفناء إلا بالاستجابة لما تمليه تلك النزعة على أصحابها .
-
تشاؤم الإنسان !! إنى أعجب حقيقة من فعل الإنسان .. كيف يندفع كل هذا الاندفاع لمحاولة توثيق الماضى رغم أنه قد يمر فى المستقبل بأجمل منه وأفضل .. لماذا يصر الإنسان على أن يعيش حياته ( تسجيل ) رغم أن فى إمكانه أن يعيشها ( مباشر ) !!
-
الكمال لله وحده .. إن مما يعين الإنسان أيضاً على معالجة هذه النزعة أن يعلم أن ( الاستقصاء محال والحصر مستحيل ) فلا سبيل إلى اعتصار كل متعة ، واقتناص كل فرصة ، بل إن فوات أى حظ من حظوظ الدنيا هين ولو كان عند الإنسان عظيماً .. لذا ، فعلى الإنسان أن يضع الاولويات نصب عينه ، وأن يفعل الأهم قبل المهم ، وإن فاته المهم بعد ذلك ، فلا ضير ، وإلا فيكفيه أنه سدد وقارب كما أمرنا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم .
-
هههههههههه !!! من السخريات اللاذعة التى يمر بها الإنسان فى محاولة استجابته لتلك النزعة أنه فى سبيل توثيق وتسجيل حدث مهم فى حياته ، قد يحدث خطأ صغير يفسد عليه خطته .. أذكر على سبيل المثال أن شاباً من أصدقائى لم يتمكن من أخذ فيلم تسجيل حفل زفافه بسبب خطأ فنى من مسئول تصوير القاعة التى كان بها حفل الزفاف . والعجيب أنه حزن حزناً شديداً رغم أنه لو لم يحدث هذا الخطأ الفنى وأخذ فيلم التسجيل لربما تمر السنوات الكثيرة دون أن يشاهده ، ثم إن الناس فى الماضى كانوا يتزوجون ويحتفلون ويبتهجون دون تصوير أفلام لزفافهم .. عجيب أنت أيها الإنسان !! بل إن أى أحد من الشباب لو مر به مثل هذا الموقف ، وحدث بعد ذلك أن انفصل عن زوجته – لا قدر الله – لربما وجدته يحمد الله كثيراً على حدوث هذا الخطأ الفنى الذى لو لم يحدث لربما قام هو بنفسه بتهشيم وتكسير الفيلم ، قتلاً لتلك الذكرى التعيسة !!
والآن عزيزى القارىء هل ستبدأ فى محاربة هذه النزعة وحصرها فى حدودها الطبيعية ، أم أنك سترهق نفسك للاستجابة لإملاءتها المتكررة .. هل تسمح لى أن أعطيك واجب عملى تقيس به مدى استفادتك مما سبق .. إذا رزقك الله بمولود ، لا تبالغ فى التقاط صورة له كلما فعل شيئاً ، بل لا تذهب لشراء تلك البطاقة التى سمعت أنها تباع فى بعض المكتبات لتوثيق كل ما يمر بالمولود ؛ مثل تسجيل أول ابتسامة له ، وأول محاولة له للمشى ، وأول محاولة للكلام .. وغيره من هذا الهراء .. صدقنى هى لست ذكريات ولكنها محض هراء .
وهل لك أن تعرف ما الذى قررته كتطبيق عملى للتصدى لتلك النزعة : اتخذت قراراً أن لا أنشغل بالتصوير لو خرجت فى رحلة إلا بعض الصور المعدودة التى تذكرتى بالمكان ليس إلا ، وبدأت فى الزهد فى الاحتفاظ بآثار الماضى إلا ما كان ذا ذكرى عزيزة حقاً ( فلا يمكن أن أحتفظ مثلاً بكتب الدراسة الجامعية ، أما بعض الصور لى مع الأصدقاء مثلاً فلا مانع ) بل إنى بصفتى عاشق للقراءة أكتب فى نهاية كل تلخيص من الكتب التى أقرأها التاريخ الذى أنهيت فيه قراءة الكتاب ، ولكنى نجحت فى محاربة تلك النزعة التى تدفعنى لتسجيل تاريخ البدء فى قراءة الكتاب ، وشعرت أنه لا حاجة لذلك ، بخلاف تسجيل تاريخ الانتهاء لمعرفة كم الكتب الذى أنهيه كل فترة .