نحن فى عصارات الكتب نحاول أن نلخص الكتاب .. نعتصره .. نذكر النقاط التى يحويها .. ولكننا فى سياحتنا بين صفحات الكتاب نناقش الكاتب .. نحاوره .. نتفق معه .. ونعترض عليه .. ندلى بدلونا فى الكتاب .. نقيم الكتاب والكاتب .. أقدم خواطرى حول الكتاب وحول موضوعه ومدى إجادة الكاتب فى تناوله .. إننا ببساطة نتجول فى صفحات الكتاب ، ونلقى نظرة عامة عليه ..

 

الكتاب : عبقرية عمر للعقاد

 

كان هذا الكتاب هو أول كتاب أقرؤه كاملاً للعقاد رحمه الله ، وقد خرجت من قراءتى له بخصائص أساسية فى أسلوب العقاد رأيتها تتكرر فى أكثر من موضع بالكتاب ، وها هى بعض هذه الخصائص :

أولاً : مما يميز أسلوب العقاد أنه يميل كثيراً إلى التشريح الدقيق من أجل توضيح وكشف ما يتناوله بحيث لم يبق منه غامض أو مبهم .

وقد يغوص ويغوص حتى يصل إلى القاع فلا يخرج بشئ كثير ، وبالتالى نجد أنه كثيراً ما يوضح الواضحات ويفسرها ويزيد فى شرحها وإيراد الأدلة والشواهد عليها .

وإذا أردت إثبات ذلك ، فاقرأ فصل (إسلامه) ستجده كتب عن عمر رضى الله عنه ما لم يختص به عمر وحده ، وإنما يشاركه فيه كثير من العرب فى عهده ، ويحاول إيراد أسباب إسلامه ، فتجدها كلها أسباباً عامة أسلم لأجلها الكثير غير الفاروق رضى الله عنه ، ونجد أنه رغم توافر هذه الأسباب أيضاً عند الكثير من العرب إلا أنهم لم يسلموا .

فقد ذكر مثلاً أن عمر أخذ ببلاغة القرآن ، والوليد بن المغيرة أخذ كذلك ببلاغته ولم يسلم .

وذكر أن عمر كان يكره المنكر الذى كان يشيع فى الجاهلية ، وكذلك كان أمية بن أبى الصلت .

وذكر أن من عمومة عمر ( وهو زيد بن عمرو بن نفيل) مَن كان من الحنفاء فى الجاهلية ، وكذلك كان غيره مثل ورقة بن نوفل وقس بن ساعدة فهذا مما لا يختص به عمر .

إن أى قارىء لكتابات العقاد يلحظ أنه يكثر من تشريح وتفسير الحوادث واستخراج دلائلها الباطنة فضلاً عن الظاهرة ، ومحاولة استجلاء ما يخفى على الكثيرين ، وفى هذا الصدد يأتى العقاد بكنوز أدبية وبلاغية وتحليلية عميقة فى سياق الموضوع الذى يتحدث فيه ، ولكنه يسترسل مع مقدرته البيانية ، فيأخذ فى بعض الأحيان فى تفسير ما لا يحتاج إلى تفسير ، وشرح ما هو غنى عن الشرح والتفصيل .

وقد يجهد القارئ ذهنه ولبه فى محاولة فهم ما يقوله العقاد ، فيجد أن كلمة أو كلمتين تغنيان عن فقرة أو فقرتين ، وإن لم تكن ستخرج بجديد فى المعنى ، فستخرج بمتعة بالغة فى العرض والبيان بأسلوب العقاد الذى يأخذ بالنفوس والألباب .

مصداق ما سبق فى فصل (عمر والصحابة) الذى ابتدأه بقوله :

بايع عمر فبطل الخلاف إلا ما لا خطر فيه .

وبويع عمر فبطل الخلاف إلا ما لا خطر فيه .

ثم يذكر الكاتب إكبار الصحابة لعمر ، ثم يقول كلاماً يلخص فى العبارتين السابقتين .. نراه يستطرد فيقول :

بايع عمر فبطل الخلاف إلا ما لا خطر فيه .

وبويع عمر فبطل الخلاف إلا ما لا خطر فيه .

وقد تواترت أقوال الصحابة فى عمر بما يشيد بفضله ويشهد بقدره ويكبر فى أعين الناس أكبر من تقال فيه . لأن الذين قالوها أناس لهم حلوم راجحة ، وألسنة صادقة ، وعقيدة راسخة ، وقلوب لا تهاب أن تقول الحق فى إنسان .

ولكن الشهادتين اللتين شهد بهما الواقع أدل على قدر عمر بين الصحابة من كل ما قيل . ( إشارة إلى العبارتين السابقتين )

لأن شهادة الواقع هى الشهادة التى يقولها الصادق باختياره ويحاول الكاذب أن يكذب فيها فلا يستطيع ، وإنما يجوز الصدق والكذب فيما يملكه اللسان أو يملكه الشعور، أما الشهادة التى تعبر عن نفسها بلغة الواقع فهى قائمة من وراء كلام الألسنة ومن وراء هوى النفوس : إنكارها كإنكار المحسوس الذى تقع عليه الأيدى ولا تغمض عنه العيون .

وهكذا نجد أن استطرادات العقاد تفسيرية تحليلية توضيحية ، ولا يشترط أن يكون ما قبلها مبهماً بحاجة إلى تفسير وتوضيح .

وهذا شاهد آخر .. يتحدث فيه العقاد عن قول أم أبان بنت عتبة بن ربيعة التى لم تقبل بعمر حين تقدم إليها خاطباً ، حيث قالت : إنه رجل أذهله أمر آخرته عن أمر دنياه ، كأنه ينظر إلى ربه بعينه.

ويقول العقاد معلقاً :

والذى نعنيه من الوصف هو قولها عن مخافة الله أنه كان يخافه كأنه يراه بعينه .

فهو فى الحق أصدق وصف لإيمان هذا الرجل المتفرد بإيمانه كما تفرد بكثير من شئونه . إنه تجاوز حد الإيمان إلى حد الرؤية والعيان ، وحقق مبالغات أبى الطيب المتنبى حين وصف الغاية القصوى من الشجاعة والحكمة فقال :

تجاوزت مقدار الشجاعة والنهى           إلى قول قوم أنت بالغيب عالم

ومهما يكن من إيمان بالغيب فهو لا يبلغ فى اليقين والحضور مبلغ الرؤية بالعين ، وهى قولة عابرة من قائلة أصابت ما لم يصبه قائل ، ولعلها لا تدرى مدى صوابها .

وهذا استطراد آخر من استطرادات العقاد لا فائدة كبيرة فيه ، ثم إن الذى قالته أم أبان لعله مستوحى من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن تعبد الله كأنك تراه ، فهى مقولة لم تسبق إليها ، ثم إن العرب عموماً تجرى الحكمة على ألسنتهم ، وفى كلامهم العابر ، فلا داعى للغلو فى مدى قيمة مقولة أم أبان .

ولكن الوجه الآخر للعملة أن استطرادات العقاد قد تكون مفيدة كما فى حالة افتراضه أن عمر أمر بإحراق مكتبة الإسكندرية وردوده على ذلك .. فمن سمات الاستطراد كثرة الافتراضات والاحتمالات .

وإن كان من فائدة هذه الاستطرادات تثبيت المعلومة وتأكيدها لدى القارئ وبسطها أمامه .

ثانياً : من الواضح أن كثرة ملازمة سيد قطب للعقاد جعلته يقتبس منه بعض ملامح أسلوبه ، ومما هو شاهد على ذلك أنه فى صـ73 عندما يتحدث العقاد فى فصل (إسلامه) عن قدرة الإسلام على إعادة صياغة النفوس ، تقرأ كلاماً كأنه لسيد قطب ، وذلك من قوله : .. صفحة يقرأ فيها القارئ قبل كل شئ ماذا يصنع الإسلام بالنفوس .. ، والشاهد أن سيداً هو من تأثر بالعقاد لأنه كان تلميذاً له .

ثالثاً : يكثر من السجع فى نهاية الفقرات ، كما يظهر ذلك فى الفقرة التالية :

يقول العقاد : وإنك لتكونن على ثقة من حقيقة واحدة فى رهط محمد تجزم بها وأنت آمن أن تخالف التاريخ فيما بطن وفيما ظهر .. وذلك أنه عليه السلام لم يبرم قط أمراً فيه غضاضة على أحد من أصحابه ، ولا سيما فى مسألة الاستخلاف أو التقديم للإمامة والصلاة بالناس فكل الذى حدث فيها فهو الذى يجمل بالنبى من تقدير وتدبير ، ويجمل بصاحبيه من إيثار وتوقير ، ويجمل بالإسلام من تمكين وتعمير ، وانتفاع بعمل كل عامل ، واقتدار كل قدير .

 

لو أردت أن تستمتع بالاستماع إلى عرض لخصائص أسلوب العقاد ، فيمكنك هذا من خلال هذا الرابط :

 

Load More Related Articles
Load More By محمد عطيتو
  • مضاعف ثواب الأعمال الأكبر

    قرأت كتاب ( كيف تطيل عمرك الإنتاجى ؟ ) الذى سرد فيه مؤلفه الشيخ / محمد بن إبراهيم النعيم ر…
  • لا استقرار إلا فى الجنة !!

    نحن فى عصارات الكتب نحاول أن نلخص الكتاب .. نعتصره .. نذكر النقاط التى يحويها .. ولكننا فى…
  • التردد .. المرض الخبيث !!

    نحن فى عصارات الكتب نحاول أن نلخص الكتاب .. نعتصره .. نذكر النقاط التى يحويها .. ولكننا فى…
Load More In سياحة بين صفحات الكتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

إقرأ أيضا

النقود والبنوك

  كيف نشأت النقود الورقية تاريخياً ؟ ورقة نقدية بمليون جنيه .. هل رأيتها من قبل ؟! أك…